فصل: تفسير الآية رقم (58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (57):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [57].
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} أي: للإسلام: {لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي: من هذا الكفر، أي: تقول هذا النوع من التحسر، والتعلل بما لا يجدي.

.تفسير الآية رقم (58):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [58].
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} أي: رجعة إلى الدنيا: {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي في الإيمان والعمل الصالح. ثم رد تعالى على تلك النفوس بقوله:

.تفسير الآيات (59- 60):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [59- 60].
{بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ} أي: بنسبة ما يستحيل عليه من الولد والشريك، وتجويز ما يمتنع عليه من رضاه بما هم عليه، وأمره لهم، وغير ذلك من إفكهم: {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} أي: لما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم، فالسواد حقيقي، أو لما لحقهم من الكآبة، ويظهر عليهم من آثار الهيئات الظلمانية، ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم، فالسواد مجاز بالاستعارة: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} أي: عن الإيمان والهدى.

.تفسير الآيات (61- 62):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [61- 62].
{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} أي: بفوزهم، وفلاحهم لإتيانهم بأسباب الفوز، من الاعتقادات المبنية على الدلائل، والأعمال الصالحة: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي: يتولى التصرف فيه كيف شاء.

.تفسير الآيات (63- 66):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [63- 66].
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: هو وحده يملك أمرها، وخزائن غيوبها وأبواب خيرها وبركتها: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} أي: خصه بالعبادة: {وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} أي: الصارفين ما أنعم به عليهم، إلى ما خلق لأجله.
قيل: كان الظاهر: لو أشركت؛ لأن أن، تقتضي احتمال الوقوع. وهو هنا مقطوع بعدمه. فالجواب: أن هذا الكلام وارد على سبيل الفرض. والمحالات يصح فرضها لأغراض. والمراد به تهييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإيذان بغاية قبح الإشراك، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره، فكيف بمن عداه؟.
وإطلاق الإحباط هنا يستدل به من ذهب إلى أن الردة مبطلة للعمل مطلقا، كالحنفية. وغيرهم يرى الإحباط مقيداً بالاستمرار عليه إلى الموت، وأنه هو المحيط في الحقيقة، وأنه إنما ترك التقييد به اعتماداً على التصريح به في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217].

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [67].
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: ما قدروا عظمته تعالى حق عظمته، ولا عرفوا جلاله حق معرفته، حيث جعلوا له شركاء، ووصفوه بما لا يليق بشؤونه الجليلة، مع أن عظمته وكمال قدرته تتحير فيها الأوهام، فإن تبديل الأرض غير الأرض، وطي السماوات كطي السجل، أهون شيء عليه.
وفي القبضة واليمين، مذهبان معروفان:
مذهب السلف، وهو إثبات ذلك من غير تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الكريم عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل، يجرون على الظاهر، ويكلون علمه إليه تعالى، ويقرون بأن تأويله: أي: ما يؤول إليه من حقيقته، لا يعلمه إلا الله، وهكذا قولهم في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح.
المذهب الثاني- القول بأن ذلك من المجاز المعروف نظيره في كلام العرب، وإن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة. ثم من ذاهب إلى أن المجاز في المفردات، استعيرت القبضة للملك، أو التصرف واليمين للقدرة، وذاهب إلى أنه في المركب، بتمثيل حال عظمته ونفاذ قدرته، بحال من يكون له قبضة فيها الأرض، ويمين بها تطوى السماوات، وهذا ما عول عليه الزمخشري وبسطه أحس بسط.
ثم أشار إلى أن من عظيم قدرته تعالى، أنه جعل النفخ في الصور سبب موت الكل تارة، وحياتهم أخرى، بقوله:

.تفسير الآية رقم (68):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [68].
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} أي: هلك: {مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} أي: من خواص الملائكة، أو من الشهداء، روي ذلك عن بعض التابعين. وقال قتادة: قد استثنى الله، والله أعلم، إلى ما صار ثُنْيَتُه. وهذا هو الوجه؛ إذ لا يصار إلى بيان المبهمات إلا بقاطع: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} أي: وقوف، يقلبون أبصارهم دهشاً وحيرةً، أو ينتظرون ما يحل بهم.

.تفسير الآية رقم (69):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [69].
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي: لأنه يتجلى لهم سبحانه لإقامة العدل والجزاء.
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: عرض كتب الأعمال على أهلها ليقرأ كل واحد عمله في صحيفته. أو: {الْكِتَابُ} مجاز عن الحساب وما يترتب عليه من الجزاء، ووضعه ترشيح له. والمراد بوضعه الشروع فيه، أو هو تمثيل. وجوهٌ نقلها الشهاب: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء} أي: الذين يشهدون للأمم وعليهم، من الحفظة والأخيار المطلعين على أحوالهم، أي: أحضروا للشهادة لهم، أو عليهم لاطّلاعهم على أحوالهم، وجوّز إرادة المستشهدين في سبيل الله تعالى، تنويهاً بشأنهم، وترفيعاً لقدرهم، بضمهم إلى النبيين في الموقف. ولا يبعد: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي: فتوزن أعمالهم بميزان العدل، ويوفّون جزاء أعمالهم، لا ينقص منها شيء، كما قال:

.تفسير الآيات (70- 73):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [70- 73].
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} أي: أفواجاً متفرقة بعضها في أثر بعض، على تفاوت ضلالهم وغيهم، رعاية للعدل في التقديم والتأخير: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي: ليدخلوها، ولكل فريق باب.
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} أي: الموكلون بتعذيبهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} أي: من جنسكم تعرفون صدقهم وأمانتهم: {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} أي: وقتكم أو يوم القيامة، حرصاً على صلاحكم وهدايتكم: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ} أي: وجبت: {كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: حكمه عليهم بالشقاوة، وأنهم من أهل النار: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} أي: مساق إعزاز وتشريف، للإسراع بهم إلى دار الكرامة: {زُمَراً} أي: متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} أي: من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا.
{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} قال السمين: في جواب: {إِذَا} ثلاثة أوجه:
أحدها- قوله: {وَفُتِحَتْ} والواو زائدة. وهو رأي الكوفيين والأخفش، وإنما جيء هنا الواو دون التي قبلها؛ لأن أبواب السجون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له، ثم تغلق عليه، فناسب ذلك عدم الواو فيها، بخلاف أبواب السرور والفرح، فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها.
والثاني- أن الجواب قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} على زيادة الواو أيضاً.
الثالث- أن الجواب محذوف. قال الزمخشري: وحقه أن يقدر بعد خالدين: أي لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط ما عطف عليه. والتقدير: اطمأنوا. وقدّره المبرد: سعدوا. وعلى هذين الوجهين، فتكون الجملة من قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} في محل نصب على الحال، والواو واو الحال، أي: جاءوها مفتحة أبوابها، كما صرح بمفتحة حالاً من: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} وهو قول المبرد والفارسي وجماعة، وزعم بعضهم أن هذه الواو تسمى واو الثمانية؛ لأن أبواب الجنة ثمانية، وردّه في المغني بأنه لو كان لواو الثمانية حقيقة، لم تكن الآية منها؛ إذ ليس فيها ذكر عدد البتة، وإنما فيها ذكر الأبواب، وهي جمع يدل على عدد خاص. ثم الواو ليست داخلة عليه، بل على جملةٍ هو فيها. انتهى.
أي وهي- على قول مثبتها- الداخلة على لفظ الثمانية على سرد العدد، ذهاباً إلى أن بعض العرب إذا عدّوا قالوا: ستة سبعة وثمانية. إيذاناً بأن السبعة عدد تام، وأن ما بعده عدد مستأنف، فأشبهت واو الاستئناف.

.تفسير الآيات (74- 75):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [74- 75].
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي: بإيصالنا إلى ما وعدنا، وأنبأنا عنه على ألسنة رسله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} أي: أرض الآخرة. شبه نيلهم بأعمالهم لها، بإرثهم من آبائهم، فكأن الأعمال آباؤهم، كما قيل:
وَأَبِيْ الْإِسْلَاْمُ لَاْ أَبَ لِيْ سِوَاْهُ

وكما يقال: الصدق يورث النجاة {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} أي: يتبوأ كل من جنته الواسعة، أي: مكان أراده: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي: الذين عملوا بما عملوا: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} أي: الملائكة السماوية حافين في جنة الفردوس حول عرش الرحمن، محدقين به. وتقدم في تفسير آية: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] في الأعراف، كلام في حملة العرش، فتذكره: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم} أي: بين الخلائق: {بِالْحَقِّ} أي: بالعدل: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: على ما قضى بينهم بالحق، وأنزل كلاً منزلته التي هي حقه. والقائل: إما الحق جل جلاله، أو الملائكة الحافون، أو المؤمنون ممن قضي بينهم، أو الكل، فله الحمد عز وجل.
عن قتادة قال: افتتح الله أول الخلق بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وختم بالحمد فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

.سورة غافر:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 2):

القول في تأويل قوله تعالى: {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [1- 2].
{حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} الكلام في مفتتح هذه السورة، وتاليه، كالذي سلف في الم السجدة.

.تفسير الآيات (3- 4):

القول في تأويل قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} [3- 4].
{غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} أي: المن والفضل: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والجزاء: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ما يخاصم في حجج الله، وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها، إلا الذين جحدوا توحيده، قال الزمخشري: سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر. والمراد الجدال بالباطل، من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق، وإطفاء نور الله. وقد دل على ذلك قوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5].
فأما الجدال فيها، لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقارحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله. وقوله صلّى الله عليه وسلم «جدال في القرآن كفر» وإيراده منكراً، تمييز منه بين جدال وجدال. انتهى: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} أي: للتجارات، وتمتعهم بالتجوال والترداد، فمآلهم إلى الزوال والنفاد.